كتب مروان عبد العال
مفكرة العدد الجديد من مجلة الهدف
وجه آخر لغسان
بعد ثلاثةٍ وخمسين عامًا على غيابه القسري، لا يزال غسان كنفاني حيًّا فينا، لا بكلماته فقط، بل “بقفشاته” التي أفلتت من بين ركام الحزن والمنفى. الثائر الذي لم ينسَ أن يكون إنسانًا. هذا غسان كنفاني الآخر كما لا يُروى في الكتب؛ وجهاً خفيف الظل، ساخراً، حادّ البديهة. رجلٌ قاتل بالكلمة… ولم ينسَ أن يبتسم.
يضحك بين طلقتين. هي نوادر ليست للضحك فقط، بل يمكن تسميتها بـ النوادر الثقافية الشفهية تُروى في المخيمات، المجالس الثقافية، أو على ألسنة رفاقه، وتحمل روح غسان، حتى وإن لم تُدوّن رسميا كنوادر سياسية موثقة عن غسان كنفاني، نذكر منها:
1. غسان كنفاني ورفضه للمال مقابل الصمت: عام 1972، قبل استشهاده بفترة قصيرة، تلقّى غسان كنفاني عرضًا “ناعماً” من جهة دبلوماسية غربية، عبر وسيط عربي. كان العرض واضحًا:
«ابتعد عن الجبهة الشعبية، قلّل من حدة كتاباتك، ويمكننا أن نساعدك لتؤسس مجلة ثقافية مستقلة بدعم مالي كبير، وتزور أوروبا بحرية، وتمنحك إقامة دائمة.»
غسان لم يغضب، لم يشتم، بل قال للوسيط بهدوء:
«هم يريدون أن أشطب اسمي من فلسطين… مقابل دفتر شيكات؟ إذا كان ثمن الصمت هو الراحة، فأنا أختار القلق. وإذا كان ثمن الكتابة هو الموت، فأنا أوقّع الآن.»
المصدر: من لمياء عكاوي، وتم توثيق مضمونها في كتاب “جذور السنديانة الحمراء”، كما أشار إليها أدونيس في تأبينه له.
2. الرصاصة مقابل الحبر؟ نعم… إذا لزم الأمر: في عام 1971، خلال مقابلة مع صحفي أوروبي، سأله الصحفي:
«أنت كاتب. لماذا تدافع عن الكفاح المسلح؟ أليس القلم أقوى من الرصاصة؟»
غسان ابتسم وقال:«نعم، القلم أقوى من الرصاصة… لكن جرّب أن تكتب قصيدة في مخيم، والرصاصة على بابك، والموت يسرق أطفال الجيران.»
وأضاف:«الرصاصة ليست نقيض الكلمة… الرصاصة قد تكون ظلّها حين تختنق.»
المصدر: من أرشيف مقابلاته مع الصحافة الأوروبية، ويمكن العثور عليها في كتاب “غسان كنفاني: الكتابة بالدم” – أنطوان شلحت.
3. غسان والانشقاق الهادئ: في عام 1971، حدث خلاف داخل قيادة الجبهة الشعبية بين جناحين:
– جناح يرى أولوية الكفاح المسلح كأداة أولى وأخيرة للنضال الوطني.
– جناح أقرب لغسان يرى ضرورة توازن بين الثقافة والتنظيم و العمل الشعبي والمقاومة.
أحد القادة الشباب انفجر في اجتماع واتهم غسان بأنه “منظّر برجوازي”، وقال:
«أنت تكتب من بيروت، بينما نحن نحمل السلاح!»
ردّ غسان بهدوء: «أنا لا أكتب من بيروت، بل أكتب من تحت جفون اللاجئين… أنا لا أحمل السلاح، لكنني أحمل المعنى الذي يجعل السلاح ضرورة لا عبثاً.»
وأضاف: «إذا انفجر السلاح بلا فكر … فان الرصاص الطائش سيوجه الى صدورنا نحن.»
المصدر: شهادة صلاح صلاح، ونشرت في كتاب “غسان كنفاني، ذاكرة المقاومة”.
4.” غسان ومنديل القُماش”: ذات مرة، في إحدى أمسيات بيروت، سألته فتاة شابة من جمهور ندوة أقيمت في مركز ثقافي عن سبب احتفاظه الدائم بمنديل قماشي أبيض في جيب سترته، حتى في أشد أيام الصيف حرارة.. ابتسم غسان للحظة، ثم قال بهدوء أمام الجميع:
“هذا المنديل ليس للزينة ولا للمسح… هذا منديل أمي. كانت تُصرّ أن أعطيه لها كل مساء لتغسله وتكويه، حتى عندما أصبحت كاتبًا تُنشر مقالاتي في الصحف. كانت تقول لي: ‘أريد أن أُبقيك نظيفًا من غبار العالم.’
منذ رحيلها، لم أغسل هذا المنديل… لأنه يحمل رائحتها.”
ندرك اليوم انه قد غاب الجسد، لكن بقيت الفكرة واللمحة والنكتة والحكاية، تضحك حينًا، وتوجع حينًا. لأن غسان لم يكن شخصًا فقط… بل منهج في رؤية العالم.
مروان عبد العال
👇🏼
🟥مجلة الهدف: صدور عدد تموز / يوليو، العدد (1547) بالتسلسل العام والثالث والسّبعون رقميًا
https://hadfnews.ps/post/133480/